اللفت صاحب سمعة سيئة لكنه غيّر العالم
مهد الطريق للثورة الصناعية في القرن التاسع عشر
لندن: كمال قدورة
يقال إن اللفت لعب دورا رئيسيا في تاريخ البشرية الحديث؛ إذ كان جزءا لا يتجزأ من نظام الزراعة الجديد الذي تم تطويره في القرن الرابع عشر في بعض البلدان الأوروبية، أو ما تعرف بالبلدان المنخفضة (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وغرب ألمانيا وجزء من شمال فرنسا). ويقول بعض المؤرخين إن تطوير هذا النظام ساعد لاحقا على حصول تغييرات اجتماعية كبيرة في أوروبا مهدت الطريق للثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
قبل البدء باستغلال اللفت كان الفلاحون يذبحون ماشيتهم في بداية فصل الشتاء، لأنهم عاجزون عن زراعة ما يكفي لإطعامها خلال الفصل البارد، كما كان الفلاحون يزرعون حقلين ويتركون حقلا غير مستصلح (بور)، (ليرتاح ويستعيد خصوبته، وعرقلة دورة حياة الآفات والأمراض التي تصيب المحاصيل)، ولكن مع زراعة الهولنديين للفت في الحقل الثالث البور، بدأت خصوبة التربة في التحسن، وصار بإمكان الفلاحين تأمين الطعام لماشيتهم خلال فصل الشتاء. ومن هناك انتقلت هذه الطريقة إلى إنجلترا عبر رجل يعرف باسم روبرتن ترنب تاونساند، الذي لعب دورا كبيرا لاحقا في تطوير النظام الزراعي. ومع تمكن الفلاحين من استغلال الأرض بأقصى حد ممكن، ومع بدء التربية العلمية والانتقائية لقطعان الماشية لاحقا في القرن الثامن عشر، أصبحت الماشية أكبر حجما، وزادت كمية اللحم المتوفرة، وبالتالي، كمية الصوف والحليب.
تاونساند أدخل في بريطانيا نظام التدوير الرباعي في الزراعة مع دخول اللفت على الخط، مما يعني أن الفلاحين يبدأون بزراعة القمح في فصل الشتاء وحصاده في فصل الصيف، وبعد حصاد القمح يبدأ الفلاحون بزراعة اللفت، وهو محصول سريع النمو، ومتسامح مع البرد، وقادر على إطعام الماشية خلال الشتاء. وفي الربيع التالي كان تتم زراعة الشعير، وبعد الشعير وفي المرحلة الأخيرة من الدورة الزراعية، كان تتم زراعة خليط من الأعشاب والبرسيم ليستخدم للرعي، ويترك القش حتى حرث الأرض من جديد. ومع النظام الجديد تضاعفت المحاصيل الزراعية لإطعام العدد المتزايد للسكان، وتحسنت أحوال التربة، وتم الحفاظ على قطعان الماشية والاستفادة القصوى منها طيلة عام كامل. بأي حال، كان من شأن إدخال اللفت على النظام الزراعي في بعض البلدان الأوروبية، إحداث ثورة زراعية شاملة، وبالتالي تغيير هائل على حياة هذه البلدان واقتصاداتها التي ساهم بعضها في الثورة الصناعية.
وقد عرف الرومان أهمية اللفت، كما يبدو، قبل ذلك بقرون طويلة؛ إذ كان كايوس بيلينوس سيكوندوس المعروف بـ«بليني الأكبر» وبكتاباته في التاريخ الطبيعي في القرن الميلادي الأول، يعد اللفت أهم الخضراوات أو المحاصيل الزراعية في ذلك الزمن، وكان يضع ترتيبه بعد الحبوب وبعد الفاصولياء في جميع المناسبات، لأن فائدته تفوق فائدة أي نبات آخر، على حد قوله. وقد أشاد بليني باللفت، لأنه مصدر غذائي للماشية وحيوانات المزارع، وأكد أنه يمنع آثار المجاعة بالنسبة للبشر، لأن بإمكانه أن ينمو في أي تربة ويترك في الأرض حتى موسم الحصاد المقبل.
يتألف اسم اللفت الإنجليزي «ترنب» – Turnip من كلمتين؛ الأولى «ترن» – turn التي تدل على الاستدارة أو الشكل المستدير، و«نيب» - nepe الإنجليزية القديمة، أو «نابوس» اللاتينية أحيانا، التي تعني اللفت نفسه، في إشارة إلى اللفت السويدي.
أما أصل اللفت الذي يطلق عليه علميا اسم «Brassica rapa»، فتشير المعلومات المتوفرة، على الرغم من عدم توفر أدلة أثرية، إلى أن تاريخه يعود إلى 4 آلاف سنة، وأنه كان متوفرا ومستحصلا بكثرة في اليونان القديمة وأيام الإمبراطورية الرومانية، حيث كان البعض يخلطه بالعسل والكمون لتحسين طعمه.
من هنا جاء ذكر اللفت في كتاب الطبخ الروماني القديم المعروف «أبيشيوس»، Apicius في وصفات طبخ الطبقات العليا من الناس، مثل أطباق اللفت ولحم البط، واللفت والتوت، واللفت المسلوق والمقدم مع العسل والكمون والخل.
كما كان اللفت يزرع في الهند قديما على نطاق واسع للاستفادة من زيت بذوره.
لطالما اعتبر اللفت ومنذ أيام الرومان من الخضراوات أو الأطعمة غير المستحبة أو المكروهة لدى البعض لأنه كان يستخدم دائما علفا للحيوانات، ولأنه اعتبر دائما طعاما للفقراء والفلاحين، وارتبط اسمه بهم رغم أن الفرنسيين استخدموه في أحد أطباقهم الكلاسيكية المعروفة مع لحم الغنم. ويشير المؤرخون إلى أنه بعد انتقال اللفت من أوروبا إلى العالم الجديد في أميركا، بدأ العبيد من أصول أفريقية في الولايات الجنوبية استخدامه وطبخه مع العظام أو قطع اللحم الرخيصة لضروراته الغذائية ولطعمه الطيب؛ من هؤلاء العبيد انتقل استخدام اللفت إلى مطابخ الموظفين الأغنياء وأصبح أكثر شهرة وانتشارا بعدها.
ولا يزال الناس في البرازيل يكرهون اللفت منذ القرون الوسطى حتى يومنا هذا، ولهذا لا يزال رخيص التكلفة. ولا يختلف حال اللفت في شبه الجزيرة الآيبيرية حيث يرتبط اسمه بالفقر ويتحاشاه الأغنياء.
ولأنه كان مكروها، يقال إن الناس كانوا يقذفون باللفت على المتهمين والمجرمين في الساحات العامة أثناء مناسبات الإعدام والعقاب العام.
في لبنان وفلسطين وسوريا، يتم تخليل اللفت وصبغه بلون الشمندر الأحمر، ويتم تناوله على أنه من المقبلات، مثل بقية المخللات، إلى جانب الحمص والمتبل، وفي ساندويتشات الفلافل.. وغيرها. وفي تركيا وفي المناطق القريبة من أضنة يتم استخدامه لتحسين طعم عصير الجزر الأسود.
وفي العراق يؤكل اللفت أو الشلغم في اللغة المحلية مسلوقًا، ويتم بيعه على العربات من قبل الباعة المتجولين في الأسواق الشعبية في فصل الشتاء. وكذلك الحال في بلاد الشام، يحضرون المخللات أو الطرشي وأحد أنواع الشوربة المرغوبة في فصل الشتاء.
وفي الدول الاسكندينافية مثل السويد والدنمارك والنرويج إلى جانب هولندا، تم استبدال استخدام اللفت بالبطاطا بعد القرن الثامن عشر، وتم إدخال نوع جديد من اللفت السويدي أو ما يطلق عليه اسم الروتاباغا أو اللفتوت، وهو نوع هجين بين الملفوف واللفت، يمكن استغلاله للاستخدام البشري والحيواني، على حد سواء.
وفي اليابان يستخدم الناس اللفت مخللا وأحيانا مقليا ويتناولونه مع صلصة الصويا، ويعتبر جزءا لا يتجزأ من مواد مهرجان العشبات السبع.
وفي شمال شرقي إيطاليا يتناول الناس طبق البروفادو، وهو طبق يحضر من شرائح اللفت الناعمة مع تفل (جفت) العنب الأحمر.
وفي إيران، يستخدم الناس اللفت المسلوق والمملح للحماية من نزلات البرد وعلاجها، والسعال، والسبب في ذلك أن اللفت، خصوصا أوراقه، يحتوي على كمية كبيرة من فيتامين «سي». كما يستخدم اللفت في كثير من الأطباق البنجابية والكشميرية العادية واليومية.
وحول استخداماته الأخرى؛ أي الاستخدامات الطبية والتجميلية، درج الناس ومنذ قديم الزمان على استخدام اللفت لمعالجة نزلات البرد والسعال وبرد القدمين ووجع المفاصل وعلاج الحصبة والتخلص من تجاعيد الوجه. وجاءت تعليمات بعض هذه الاستخدامات في الكتب الرومانية القديمة.
أما حديثا، فيقال إن اللفت، خصوصا أوراقه، يحارب أو يحمي من مرض السرطان، وأمراض القلب، ويقوي المعدة، والجهاز الهضمي، أضف إلى ذلك الحماية من الالتهابات والأكسدة ودعم جهاز المناعة.