الهليون.. من الاستخدامات الطبية إلى موائد القياصرة
الهليون.. كان فخر إيطاليا في عصر النهضة
لندن: كمال قدورة
الهليون ليس من النباتات المعروفة جدا والمستهلكة في كل الأنحاء، لكن الكثير من الناس يعرفونه، ويعرفون نباته الطيب والدقيق والرقيق الذي شاع عنه منذ قديم الزمان أنه من الخضراوات أو النباتات التي تدعم الشهية الجنسية وتمنح الجسم القوة والنشاط. ولذا رغم توافره هذه الأيام بكثرة في الأسواق الأوروبية والعالمية، فإن أسعاره لا تزال أغلى نسبيا من أسعار الخضراوات العادية والتقليدية. فهذا النبات الطيب الذي يمكن أكله طازجا أيضا، نبتة منيعة وقوية تعمر لسنوات، ولا تطعم أكثر من مرة في السنة، ويفضل أن تزرع بذورها عميقا. وهو من النباتات التي تفضل البيئة الرملية والبحرية المالحة.
الهليون ورغم كثرة استخداماته في القسم الشمالي من المعمورة، فإنه يفضل دائما مسلوقا مع الزبد أو زيت الزيتون للتمتع بطعمه اللذيذ والحلو نسبيا.
ويتم التعامل معه برقة، إذ إن العناية به وإنتاجه ليس مسألة سهلة وبسيطة كما يظن البعض، بل يحتاج إلى التوقيت المناسب ومعرفة أوقات القطاف وغيرها من أمور العناية بالنبتة الرقيقة والمحببة غلى الكثير من شعوب العالم، وخصوصا الأغنياء.
وحول الإنتاج العالمي من الهليون، فإن إنتاجه يبدو بشكل مكثف وعلى نطاق واسع متوقفا على بعض مناطق أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية والقارة الآسيوية وأوروبا وبشكل خاص بريطانيا. وتشير الأرقام المتوافرة إلى أن الصين كانت قبل أربع سنوات من أكبر المنتجين في العالم، حيث وصلت كمية إنتاجها منه إلى 6 ملايين طن. وكانت بيرو من أكبر المصدرين للهليون إلى جميع أنحاء العالم عام 2007، تبعتها الصين والمكسيك. وعام 2004 كانت الولايات المتحدة الأميركية، حيث استوردت نحو 93 ألف طن، جاء بعدها الاتحاد الأوروبي بـ19 ألف طن تقريبا، ثم اليابان بـ17 ألف طن. ورغم أن الولايات المتحدة من أكبر المستوردين، فقد كانت أيضا من أكبر المنتجين للهليون حول العالم عام 2005 وبالتحديد في المرتبة الثالثة، إذ أنتجت آنذاك ما لا يقل عن 91 ألف طن (تفرز الولايات المتحدة 54 ألف هكتار من الأراضي لزراعة الهليون) بعد بيرو بـ206 آلاف طن، والصين على رأس اللائحة بـ6 ملايين طن.
وتتركز زراعة الهليون في الولايات المتحدة وبالتحديد في واشنطن وكاليفورنيا وميتشغان. ويبدو أن للهليون مكانة خاصة في بعض الولايات التي تقيم له المهرجانات السنوية كما هو الحال في سكرمانتو في كاليفورنيا ومينتي هارت وستوكتون، ويحصل الأمر ذاته في ميتشغان.
أما أكبر المنتجين في أوروبا الشمالية للهليون فهي منطقة وادي ايفشام في وورستيشر (Worcestershire) في وسط إنجلترا. وتقيم البلدة المعروفة أيضا بصلصتها الشهيرة مهرجانا لمدة أسبوع كل عام، وتقيم المنافسات بين المزارعين حول أفضل أنواعه، وعادة ما يرتدي الناس خلال المهرجان ازياء خاصة مستوحاة من النبتة النحيفة والرقيقة. ويجري الأمر ذاته في ألمانيا أيضا في مدينة نورمبرغ في بافاريا التي تحيي الهليون بأسبوع خاص في أبريل (نيسان) من كل سنة، خصوصا الهليون الأبيض المعروف هناك بـ«سبارغيل» (Spargel)، وعادة ما تتم عملية إنتاج الهليون الأبيض الذي يلقب أحيانا بـ«الملك الأبيض»، بحرمانه من الضوء وزيادة الأشعة ما فوق البنفسجية أثناء نمو النبتة. وهو عادة أقل مرارة من النوع العادي الأخضر، وله شعبية كبيرة في كل من هولندا وفرنسا وبلجيكا وبالطبع ألمانيا التي تنتج منه للاستهلاك المحلي ما لا يقل عن 60 طنا في السنة. أما الهليون الزهري فهو من الأنواع التي أصلها الطليان مؤخرا لغايات تجارية، وعادة ما يحتوي هذا النوع من الهليون على كمية أكبر من السكر وكمية أقل من الألياف ويطلق عليه تجاريا اسم «فيوليتو دي البينغا» (Violetto d›Albenga) ويجد هذا النوع شعبية كبيرة في أوساط الأميركيين وأهل نيوزيلندا.
عادة ما يستخدم من الهليون رؤوسه الطرية التي لا يتعدى طولها أحيانا العشرين سم، محمصا في الفرن مع الصنوبر. ويلجأ الآسيويون إلى قليه بسرعة على الطريقة التايلاندية والصينية. وفي الولايات المتحدة أيضا يتم قليه بسرعة وتقديمه مع اللحم المقدد المجفف أو بالـ«بيكون» والدجاج والقريدس ولحم البقر أحيانا. ويلجأ البعض إلى شويه تحت النار أو فوق الفحم. والأهم من هذا كله أن له استخدامات كثيرة في صناعة الصلصات وبعض الأطباق واليخنات وأنواع الحساء في شتى أنحاء العالم. ففي فرنسا مثلا يتم سلقه أو طبخه على البخار لوقت قصير وتقديمه مع الصلصلة المعروفة بالصلصلة الهولندية، وبعض الزبدة أو زيت الزيتون، وجبنة البارمزان الإيطالية أو المايونيز. وعوضا عن أن بالإمكان تخليله، وحفظه لسنوات طويلة، فإنه بشكل عام يفضل في الكثير من البلدان، خصوصا أوروبا، مسلوقا ومقدما مع الزبدة والملح والبهار إلى جانب اللحم أو الدجاج أو غيرهما.
الهليون المعروف حاليا من نوع «اسباراغوس أوفيشيناليز» (Asparagus officinalis) علميا وهو من جنس «اسباراغوس» (Asparagus) من الفصيلة الزنبقية «اسباراغاسيا» (asparagaceae)، ويعود أصل الاسم الإنجليزي للهليون «اسباراغوس»(Asparagus) المستخدم منذ أكثر من ألف عام، إلى أصول لاتينية. وكان الإنجليز يطلقون على النبتة أيضا اسم «سبيراغ» (sperage)المتفرع من الاسم اللاتيني في القرون الوسطى «سباراغوس» (sparagus) وهذا الاسم اللاتيني أيضا يعود إلى أصول يونانية، وإلى كلمة «اسفاراغوس» (aspharagos) أو «اسباراغوس» (asparagos)، وقد أخذ أهل اليونان الاسم عن الفرس قديما وبالتحديد من كلمة «اسباراغ»(asparag) التي تعني الـ«برعم» أو الـ«غصن الصغير». ولهذا كثيرا ما يجري الخلط بين الكلمة الفارسية والكلمة الإنجليزية وأنواع الهليون نفسه.
حتى في إنجلترا لا يزالون يطلقون عليه اسم «غراس» (grass) وفي بعض المناطق الأخرى كما تشير الوثاق التاريخية بـ«سبارو غراس» (sparrow grass)، ويتم تحوير هذا الاسم إلى عدة أسماء حسب المنطقة في الولايات المتحدة الأميركية. مهما يكن فإن الألمان يطلقون عليه اسم «سبارغال» (Spargel) أما الطليان فيطلقون عليه «اسباراغو»(asparago) ، والبرتغاليون «ايسباراغو أورتانس»(espargo hortense) ، والإسبان «ايسباراغو» (esparrago) والهولنديون «اسبيرغي» (asperge)، وفي اللغة السنسكريتية يطلق على الهليون اسم «شاتافاري» (Shatavari)، ويعتبر الهليون جزءا من المكتبة الطبية السنسكريتية تاريخيا.
تاريخ الهليون يقول إن موطنه الأصلي هو أوروبا، وبشكل خاص أيرلندا وشمال إسبانيا وبريطانيا وألمانيا. لكن بعض المعلومات الأخرى تشير إلى أنه من منطقة الشرق الأوسط، وربما إيران أو تركيا. وإن أول من زرعه كان أهل مقدونيا شمال اليونان في عام 200 قبل الميلاد، وهناك وثائق تشير إلى أوامر بزرعه وإنتاجه. وهناك وصفة خاصة بطبخه في أحد الكتب التاريخية الشهيرة في القرن الثالث. ومع هذا فقد استخدم الفراعنة الهليون للأكل وللطبابة أيضا لمميزاته الفذة، واعتنى به أهل اليونان وراثة عن مقدونيا وبعدهم الرومان الذين أيضا أولوه عناية خاصة من أيام يوليوس قيصر وبليني إلى أيام أغسطس، وأيامنا هذه. وكانت نبتة الهليون من أشهر النباتات في شمال إيطاليا ومنطقة ميلانو خلال عصر النهضة، ولطالما تمت العناية به على أنها من النباتات الرقيقة والدقيقة، ونوع من أنواع المآكل الخاصة بالأغنياء والنخبة كما كان الحال مع الأباطرة والقياصرة الذين كانوا يخزنونه ويحفظونه خوفا من انقطاعه. وتم ذكر الهليون البري في كتب القرن السادس عشر، وخصه بالذكر النباتي جون جيرارد في أحد كتبه. وينطبق الأمر على القرن السابع عشر، حيث ظهرت وصفات طبخه في فرنسا ومن ثم أنحاء العالم قاطبة. من الاستخدامات التاريخية للهليون كما سبق وذكرنا الاستخدامات الطبية التي لا علاقة لها بالطبخ والطعام، إذ إن النبتة قليلة الشحوم أو المواد الدهنية، ومنخفضة السعرات الحرارية والصوديوم. وهي إضافة إلى ذلك مصدرا من مصادر البوتاسيوم والألياف. وقد استخدم الصينيون جذوره منذ قديم الزمان لعلاج كل مرض من العقم إلى التهاب المفاصل. إذ إن الجذور تحوي مادة الـ«ستيرويدال غليكوسايدز» (steroidal glycosides) المضادة للالتهابات. ومن شأن حامض الفوليك أو أسيد الفوليك الحماية من التشوهات أثناء الولادة، وبعض أنواع السرطانات وأمراض القلب، ويساعد على دعم جهاز المناعة في الجسم. ومن شأن البوتاسيوم أن يساعد على توازن الخلايا وتنظيم ضغط الدم والقلب بشكل عام. وفي عام 1991 أشارت الدراسات الطبية الإيطالية إلى وجود مواد مضادة للفيروسات في الهليون الطيب.