التوت... عشقه دود القز وأُغرم به شكسبير وفان غوخ
أول شجرة في بريطانيا زُرعت في قصر باكنغهام
لندن: كمال قدورة
لشجرة التوت مكانة خاصة في عالم ذكريات الطفولة القصيرة، إذ كنا ننتظر كل سنة زيارة خالتي فاطمة على أطراف مخيم الرشيدية، جنوب مدينة صور في لبنان، لقطف وجمع ثمارها البيضاء المتساقطة على مصطبة البيت الصغير المربعة المتواضعة. وكنا نجلس تحت شجرة التوت البيضاء التي تغطي المصطبة لنتمتع بهذه الثمار السكرية، بينما تتسامر والدتي وأختها على آخر أخبار العائلة. ولا يزال طعم ذلك التوت المشبع بشمس الجنوب وماء رأس العين المعروفة جزءًا رئيسيًا من الذاكرة البدائية الخفية التي تشكل عالم الطعام ولذاته الأولى لدينا.
التوت، بشكل عام، من أنواع الفاكهة الخاصة والفريدة، فهو جميل الشكل وثماره الناضجة لذيذة ومنعشة، وتعتبر أشجاره من أجمل أنواع الأشجار الكلاسيكية المعمرة التي تعيش وتثمر لمئات السنوات، وهو أيضًا، وبالتحديد أوراقه، غذاء دود القز الذي من دونه لا يمكن إنتاج واحد من أنعم الأنسجة في العالم منذ آلاف السنين، ألا وهو الحرير.
تنتشر زراعة التوت الأسود والأحمر والأبيض في جنوب أوروبا ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبه القارة الهندية التي تضم الهند وباكستان ونيبال وسريلانكا وبوتان وبنغلاديش.
تاريخ
تنتشر أشجار التوت بكثرة أيضًا في شبه جزيرة البيلوبونيز، في جنوب اليونان، منذ قديم الزمان. وكانت تعرف البيلوبونيز في العصور الوسطى، أيام بيزنطية، باسم «موريه» التي تعني باليونانية: شجرة التوت.
وما يعطي الأمر مصداقية أن البيزنطيين كانوا يهربون دود القز من الصين بعد القرن السادس للميلاد، لكن الخبير البريطاني في بيزنطية وأسرارها ستيفن رونسيمان يقول إن الاسم أطلق على شبه الجزيرة لأن شكلها يشبه شكل شجرة التوت.
وتقول الموسوعة الحرة إن ثمار التوت وجدت «في مقابر هواره، واستعملها الفراعنة غذاءً وضمن الوصفات العلاجية. ويسمى التوت باللغة الفرعونية (الخوت)، واللفظ قريب جدًا من العربية. وقد استخدم الفراعنة عصير التوت شرابًا لعلاج حالات البلهارسيا وحرقان المعدة، ولعلاج حالات الكحة والسعال الديكي».
ويقول الشاعر الكاتب الروماني القديم أوفيد في كتاب التحولات (قصيدة سردية تضم 15 كتابًا و250 أسطورة تسرد تاريخ العالم من بداياته إلى أيام يوليوس قيصر) إن سمات اللون الأحمر الأرجواني لثمرة التوت تعود إلى الوفاة المأساوية للعاشقين بيراموس وثيزبي.
الأسطورة البابلية الأصل التي نقلها الإغريق تقول: «إن العاشقين كانا يلتقيان سرًا في جنح الظلام تحت شجرة توت خارج المدينة لأنهما كانا ممنوعين من اللقاء والزواج من قبل والديهما. وذات مرة، وفي أثناء انتظارها لحبيبها، وجدت ثيزبي أمامها لبؤة بفم مغطى بالدم، فخافت وارتعبت وهربت تاركة خمارها وراءها، فالتقطته اللبؤة وتركته مدمغًا بالدم، قبل أن تعدو إلى غابة أخرى. وعندما جاء حبيبها ووجد الخمار ملطخًا بالدم، انتحر لاعتقاده بمقتل حبيبته. وعندما جاءت ثيزبي ووجدته ملطخًا بدمائه يلفظ أنفاسه، قتلت نفسها هي الأخرى، فاختلط دمهما ملطخًا جذع شجرة التوت. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت ثمار التوت البيضاء حمراء داكنة تخليدًا لذكرى الحبيبين».
وقد استخدم الفنان الهولندي المعروف فينسنت فان غوخ شجرة التوت موضوعًا لواحدة من أهم لوحاته التي أنجزها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1989، تحت عنوان «شجرة التوت»، وهي موجود في متحف نورتن سيمون في باسادينا، في كاليفورنيا، أي قبل سنة من وفاته، وخلال أصعب فترة كان يمر بها في حياته. ونرى في اللوحة شجرة التوت تنمو وحيدة بين صخور المنطقة المواجهة لمأوى سانت ريمي الذي كان يعيش ويمضي عزلته فيه. ويبدو أنه كان سعيدًا في أثناء رسم تلك اللوحة التي يقال إنها كان لوحته المفضلة، إذ يقول لأخيه في إحدى الرسائل: «لا بد أن أخبرك أننا نمر بأيام خريفية رائعة، وأنا أحاول الاستفادة من هذه الفرصة».
في العصر الأنغكوري، خلال إمبراطورية الخمير (مملكة قامت في الهند الصينية بين القرنين التاسع والخامس عشر، وهي إحدى أهم الإمبراطوريات في جنوب شرقي آسيا)، كان الرهبان البوذيون في كمبوديا ولاوس وتايلاند وميانمار يصنعون الورق من جذع شجر التوت، ويصنعون من الورق الكتب المعروفة باسم «كرايينغ kraing» التي يمكن لفها لفًا.
وفي الفلكلور الألماني القديم، كانت ثمرة التوت تعتبر شريرة، وكان يقال إن الشيطان يستخدم جذور الشجرة لصباغ حذائه الأسود.
التوت في بريطانيا
وبصدد تاريخ شجرة التوت في بريطانيا، تم زرع أول شجرة توت في لندن في قصر باكنغهام، وكانت من نوع «التوت الأسود أو التوت الشامي» (Morus nigra). وكانت الشجرة تثمر أطيب أنواع التوت، ولكنها لم تكن من ذلك النوع الذي زرع بستان التوت (4 هكتارات) في القصر لأجله، وهو إيواء دود القز، والحصول عليه لغايات تجارية (النوع الذي يأوي دود القز هو التوت الأبيض الصيني Morus alba). وقد تمت زراعة بستان التوت وآلاف من أشجار التوت الأخرى، بعد أن قرر الملك جيمس الأول عام 1606 إنعاش قطاع صناعة الحرير لمنافسة الفرنسيين. وبالطبع فشل مشروع جيمس الأول لأنه استورد نوع التوت الأسود الشامي، بدلا من الأبيض الذي يأوي ويطعم دودة القز.
وتؤكد الكاتبة البريطانية المعروفة ويدجيت فين أن الرومان الذين جاءوا بشجرة التوت إلى بريطانيا منذ قديم الزمان، كانوا يستخدمون التوت لغايات طبية، منها علاج أمراض الفم والقصبة الهوائية والرئتين.
ومنذ القرن السابع عشر، يستخدم البريطانيون لحاء جذور التوت للصباغة، ولطرد الدودة الشريطية والديدان الأسطوانية من القناة الهضمية.
وحسب المعلومات المتوفرة، لم يبدأ البريطانيون بالتمتع بثمرة التوت بوصفها فاكهة إلا في العصر التيدوري. ويقال إن الملك هنري الثامن أمر بزرع 20 شجرة كرز وأشجار خوخ (من نوع ديمسون الليلكي الداكن) والدراقن الأحمر وأشجار التوت، وبناء بركة للسمك في عزبته في تشيلسي.
ويبدو أن أولى أشجار التوت المعروفة في بريطانيا لا تزال في حديقة بيت الفنان ثوماس غينسبره، في سدبري، في نوفلك، في إنجلترا، وقد تم زرعها عام 1627 تقريبًا.
وتقول ويدجيت إن شعبية التوت في بريطانيا لم تكن حكرًا على لندن العاصمة، إذ إن هناك كثيرًا من أشجار التوت المعمرة والقديمة جدًا في مسقط رأس الكاتب ويليام شكسبير، ستراتفورد أبون آفون، وهي بلدة إنجليزية من القرون الوسطى في مقاطعة وورويكشير، غرب وسط البلاد (جنوب مدينة برمنغهام).
وتقول الكاتبة إن شكسبير نفسه زرع إحدى أشجار التوت في منزله المعروف بـ«نيو بالاس». وبعد أن أصبحت الشجرة مشهورة جدًا في منتصف القرن الثامن عشر، ولكثرة الطلب على رؤيتها، قطعها صاحب البيت الجديد ريف كاستريل ليرتاح من الزوار. ولا بد من التنويه هنا إلى أن ذكر التوت جاء في كثير من مسرحيات شكسبير المعروفة.
الخواص الطبية للتوت
يبدو أن للتوت لائحة طويلة من المنافع الصحية، وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن التوت الأسمر فقط يستخدم للعلاج، وأن ابن سينا صنفه إلى نوعين، وأكد أنه ينفع القروح الخبيثة، وأن عصارته تنفع أيضًا بثور الفم. كما ذكر ابن البيطار التوت ومنافعه، وأكد الأنطاكي أنه يصلح الكبد ويفتح الشهوة ويطفأ العطش وينفع أورام الحلق واللثة والجدري والحصبة والسعال.
وبشكل عام، ولأنه من أكثر أنواع الفاكهة التي تحتوي على مواد الانثوسيانين المضادة للأكسدة، يحارب التوت سرطانات القولون والمريء والجلد، كما يحمي الحامل من التهابات الجسم، ويحمي من تلف الخلايا، وبالتالي من الشيخوخة وتجاعيدها، ومن مرض السكري. كما تساعد أحماض التوت الأمينية على تغذية الشعر، كما تساعد كمية الزنك الكبيرة الموجودة فيه على زيادة الرغبة الجنسية عند الأفراد.
التعليقات