البهارات بمختلف النكهات توحد الأمم والحضارات
لندن: كمال قدورة
يصعب تخيل الطعام والمآكل أحيانا من دون البهارات، فالطعام معها دائما أغنى وأشهى وأكثر قابلية لما تحمله من روائح طيبة ومذاقات ونكهات لا تعوض. وقد تمكن البشر خلال تاريخهم الطويل من استغلال الكثير من أنواع النباتات واكتشاف عدد هائل من الأنواع التي يمكن استخدامها كبهارات تطيب اللحم أو الخضار وتخرجها من رتابة طعمها التقليدي.. ولذلك لجأوا إلى البذور والثمار الناضجة كالفلفل والخردل والجذور والأبصال كالزنجبيل والثوم والأوراق والقشور كما هو الحال مع الزعتر والكزبرة والبقدونس والنعناع وإكليل الغار الرائع. ولم يقتصر استخدام البهارات على التمتع بالطعام فقط، بل تعداه إلى استخدامات كثيرة أخرى، والأهم فيها النواحي الطبية والعلاجات والأدوية، كما استخدمت كحافظ للطعام كما كان حال الملح في الكثير من المناطق الساحلية. وبالطبع، وفي القرن العشرين، دخلت البهارات عالم التصنيع من أبوابه العريضة ودخلت في صناعة الكثير من المواد والبضائع مثل أدوات التجميل والشامبو والكثير من المشروبات.
ويصعب أيضا وضع تاريخ محدد لبدء الناس باستخدام البهارات، وعلى الأرجح أن الأمر كان يتطور مع الوقت، إلا أن الاستخدامات الأولى للبهارات تعود بشكل عام إلى الحضارات الأولى والحضارات القديمة، وخصوصا على صعيد الاستخدام المتعدد والمكثف. ولذلك أيضا أصبحت أنواع كثيرة من مجموعة البهارات العظيمة من أهم المواد التجارية بين الدول والشعوب والأمم في قديم الزمان. ويقال إن تجار العبيد الذين اشتروا النبي يوسف (عليه السلام) من إخوته كانوا في قافلة خاصة بنقل البهارات. وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار، إن البشر يستخدمون البهارات منذ 50 ألف سنة، وإن تجارة البهارات عرفت «في الشرق الأوسط نحو سنة 2000 قبل الميلاد وعلى الأخص القرفة والفلفل. وتم مؤخرا اكتشاف آثار لفصوص من الثوم في موقع ترقة الأثري في منطقة دير الزور يعود تاريخها إلى عام 1700 قبل الميلاد». ويذكر الثوم في الكتب القديمة وعلى رأسها ملحمة رامانا الهندية التي يعود تاريخها إلى عام 200 قبل الميلاد أيضا. وبالطبع جاء ذكر الكثير من أنواع البهارات في المخطوطات الرومانية، إذ كانت البهارات طوال الفترة الرومانية جزءا مهما من عالم الطعام وحياة الأباطرة. وفي القارة الصفراء في آسيا أيضا، وخصوصا في الجنوب ذكرت الكتابات الهندوسية المخطوطة باللغة السنسكريتية جوز الطيب التي يعتقد أنها جاءت من جزر الملوك. ويطلق على جزر الملوك هذه اسم جزر التوابل أيضا. وهي مجموعة من الجزر الإندونيسية القريبة من خط الاستواء. ويقال إن توابل الجزيرة هي التي جذبت الناس والبشر والتجار إلى الجزر الإندونيسية وأهمها: ترنيت وتيدور وهاماهيرا وأمبون وجزر الباندا. ويبدو أن البرتغاليين كانوا أول الأوروبيين الذين جاءوا بالقرنفل إلى جزيرتي تيدور وترنيت بداية القرن السادس عشر عندما قاموا ببناء أول مستعمراتهم في تلك المنطقة من العالم. ويقول الكثير من المؤرخين إن الدافع وراء رحلة المكتشف والبحار البرتغالي فاسكو دي غاما الشهير نهاية القرن الخامس عشر، كان السيطرة على طرق تجارة البهارات والتحكم بها، إذ كان البرتغاليون والإسبان في تلك الفترة يشكون من الأسعار التي كانت تفرضها مدينة البندقية الإيطالية.
وبعد فاسكو دي غاما، نشط القائد السياسي والبحري في البرتغال أفونسو دي البوكريك في منطقة المحيط الهندي وأخضعها لسلطانه، وحاول عزل معابر المحيط الهندي عن بقية البحار مثل المحيط الأطلسي والبحر الأحمر والمحيط الهادي والخليج العربي، ليبقي المحيط الهندي حكرا على الإمبراطورية البرتغالية ويتحول إلى بحيرة مغلقة. وبعد سيطرته على أرخبيل سقطرة ومنطقة هرمز وغوا في الهند بداية القرن السادس عشر، تمكن البرتغاليون من الاتجار بالبهارات مباشرة مع جزر الملوك والصين وسيام. وكانت الفانيليا والشوكولاته والفلفل الحار وبعض أنواع الفلفل الأسود وما يعرف بـ«بل» من أكثر الأنواع المطلوبة والمحمولة آنذاك. وكانت جزيرة غراندا أيضا في جزر الكاريبي تنشط على هذا الصعيد وخصوصا تجارة جوز الطيب وغيره من الأنواع.
وقد كانت البندقية تسيطر على عالم البهارات وتجارتها وتحتكره في الشرق الأوسط منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر (يقال إن المدن الإيطالية كانت تستورد ألف طن من الفلفل الحار وألف طن من البهارات الأخرى في السنة - وكان أغلاها الزعفران - ومنها بهارات لم تعد تستخدم كثيرا مثل «حبوب الجنة» من العائلة الزنجبيلية القريبة، والهال، والفلفل الحار الهندي الطويل، والسنبل الهندي الذي ذكر في الإنجيل، والغلنغال الشبيه بالزنجبيل). ويذكر أن أول صفقة إنجليزية لشراء القرنفل في تلك الأصقاع وبشكل خاص من ترنيت، كانت على يد المكتشف البريطاني السير فرانسيس دريك في العقد الأخير من القرن ذاته. وفي بداية القرن السابع عشر وصلت قوافل السفن الهولندية إلى هذه الجزر بحثا عن البهارات، ولحق هذه القوافل بعد عدة سنوات مستعمرة شركة الهند الشرقية في جزيرة أمبون. وبعد ذلك أصبحت ترنيت تحت الحكم الهولندي عام 1667، وخلال الفترة الهولندية التي سبقت إنشاء إندونيسيا وضم هذه الجزر إليها، تركزت زراعة القرنفل وجوز الطيب في جزيرتي أمبون وباندا حتى الآن. وبالطبع كان للعرب دور كبير في تاريخ البهارات وعوالم تجارتها، إذ سيطروا على طرق تجارتها بين الشرق الأوسط والهند لفترات طويلة حتى الأزمنة الرومانية. وأثناء ذلك أصبحت مدينة الإسكندرية في مصر من أهم المراكز التجارية الخاصة بالبهارات بين الشرق والغرب. وعندما كان التجار الإندونيسيون يسافرون إلى الصين والهند والشرق الأوسط وشرق أفريقيا لبيع منتجاتهم من البهارات، كان ذلك يتم بمعونة التجار العرب، وخصوصا في الشرق الأوسط والهند والطرق إليها.
أهمية تجارة البخور والبهارات بين شبه الجزيرة العربية والهند تزايدت مع الوقت وصار بمقدور اليونانيين لأول مرة الاتجار مباشرة مع الهند. ويعود الفضل في اكتشاف أو إعادة اكتشاف الطريق البحري إلى الهند إلى البحار يودوكوس الذي تفحص بحر بطليموس الثامن، الذي حكم مصر ذات مرة. وقد قام يودوكوس برحلتين إلى الهند في هذا الإطار.
مهما يكن، فإن تجارة البهارات تاريخيا بدأت بين الحضارات الآسيوية والعالم اليوناني - الروماني القديم عبر طريقي البخور (الحرير، والأقمشة، والبهارات الهندية، وخشب الأبنوس، والمر، واللبان العربي)، والروماني - الهندي. وكان الطريق الأخير يعتمد على وسائل الاستيراد والتصدير التي تتبعها مملكة أكسوم في شرق أفريقيا، وبالتحديد بين مصر وإثيوبيا وشبه الجزيرة العربية. وقد تمكنت المملكة من فتح ما يعرف بطريق البحر الأحمر في القرن الأول. لكن في القرن السابع وصعود الإسلام قطعت الطرق البرية أمام القوافل العابرة لمصر وقناة السويس، وتم تمزيق المجتمعات الأوروبية المختصة بالتجارة في مملكة اوكسوم والهند. وبعد ذلك سيطر العرب على تجارة البهارات وطرقاتها عبر استخدام بلاد الشام وتجار البندقية للوصول إلى أوروبا، حتى مجيء الإمبراطورية العثمانية نهاية القرن الخامس عشر.
ورغم أن الطرقات البحرية أسهمت في تحسين تجارة البهارات، فإن الطرق البحرية كانت أكبر أهمية وأدت إلى نمو كبير في النشاط التجاري بالبهارات، وقد سيطر العرب على الطرق البحرية للمحيط الهندي في القرون الوسطى وعملوا على استيراد ما لذ وطاب إلى مناطق الخليج العربي والبحر الأحمر قبل أن يعاد توريدها إلى القارة الأوروبية.
ويقال إن الفضل في معرفة جوز الطيب والفانيليا في بلاد الشرق، يعود إلى عصر الخلافة العباسية في بغداد والدور الكبير الذي لعبه مرفأ البصرة في عمليات الاستيراد والتصدير الخاصة بالبهارات. ولكن البصرة لم تكن الميناء العباسي الوحيد لتجارة البهارات آنذاك، إذ كان العباسيون يستخدمون مرافئ عدن في اليمن والإسكندرية ودمياط في مصر وسيراف في إيران. ويقال أيضا إن قصص «السندباد البحري» الخيالية مستوحاة من رحلات البحارة وتجار البهارات من البصرة ومناطق الخلافة إلى الهند وغيرها من المناطق في تلك الأزمان. كما يؤكد الكثير من المؤرخين أن معظم البحارة الذين كانوا يمخرون الطرق البحرية باتجاه الهند وجزر الملوك كانوا من عمان واليمن. وجاء ذكر جزر الملوك وشرق تيمور وجوز الطيب والقرنفل (مصدر خشب الصندل) في النصوص العربية الصادرة في القرنين الخامس والسادس عشر. وقبل ذلك في القرن العاشر والقرن الثاني عشر والرابع عشر، جاء ذكر تجارة البهارات في كتابات الخافقي وإسحق بن عمران وأبو العباس القلقشندي.
بعد العرب كما لاحظنا، جاء دور الأوروبيين الذين بدأوا باكتشاف العالم، وعبر هؤلاء تم تطوير تجارة البهارات وعوالمها بشكل لم يسبق له مثيل. وبدأ البرتغاليون نشاطهم على هذا الصعيد عبر طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا.
وكانت التجارة بالبهارات منذ ذلك الوقت حتى القرن الماضي، وعبر الكثير من الطرق دافعا للاقتصاد العالمي، لكن مسألة السيطرة الأوروبية على طرق التجارة وتطويرها استغرق بعض الوقت، إذ بقي البرتغاليون محدودين يستخدمون الموانئ القديمة والطرق القديمة، وتمكن الهولنديون من مواصلة نشاطهم مباشرة من رأس الرجاء الصالح إلى مضيق سوندا في إندونيسيا.
ورغم أن الكثير من الدول تنتج البهارات وتزرعه هذه الأيام، فإن زراعته وإنتاجه على نطاق واسع واستهلاكي على الصعيد العالمي ترتكز على عدة دول مثل الهند والصين وبنغلاديش وباكستان وتركيا ونيبال وإيران وغيرها. وحسب إحصاءات عام 2004 الصادرة عن منظمة الغذاء العالمي التابعة للأمم المتحدة، فإن الإنتاج العالمي من البهارات ذلك العام وصل إلى نحو مليوني طن، 86 في المائة منها من الهند.
بأي حال، فإن تجارة البهارات وطرق تصديرها وتوريدها، أدت إلى خلق تلاقح حضاري بين الكثير من الجماعات والأمم وعلى رأسها الهندوس والبوذيون الذين كانوا يشكلون جزءا كبيرا من النشاط التجاري في الهند، وقد عملوا على ترويج سك العملة والفنون والكتابة خلال نشاطهم. بينما تمكن المسلمون من التوسع باتجاه آسيا وجنوب شرقي آسيا في القرن العاشر ونشر الدين الجديد، أما المبشرون المسيحيون فقد تمكنوا أيضا من نشر المسيحية في تلك الأصقاع. وأكبر شاهد على هذا التلاقح الوجود الإسلامي والمسيحي في تيمو وجزر الملوك.
وبالإضافة إلى اختلاط العرب من عدن والجزيرة وبلاد الشام ومصر بالآسيويين والسكان الأصليين، فقد اختلط الأوروبيون من جميع المناطق بالعرب والسكان الأصليين أيضا من أقصى مناطق الصين حتى سقطرة جنوب أفريقيا. كما اضطر التجار من جميع المناطق إلى إتقان اللغات الحية المشاركة في هذا النشاط كالعربية والبرتغالية وغيرها. وتمكن هؤلاء التجار أيضا من جلب الكاري الهندي إلى إندونيسيا وماليزيا كما جلب البرتغاليون الخل إلى الهند.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق