الحليب... مكوّن أساسي وتاريخ طويل
لندن: كمال قدورة
الحليب من أهم مواد الطعام والأغذية التي يستخدمها الناس منذ آلاف السنين، وله مشتقات كثيرة وأساسية يعتمد عليها الناس، مثل اللبن واللبنة والجبنة على أنواعها والقشطة والسمن. ويُعتبر الحليب أيضاً من المواد الرئيسية في تحضير كثير من الأطباق أو الأطعمة والمعجنات وكثير من الصلصات والحلويات والمواد الطبية ومستحضرات التجميل.
فما تاريخ الحليب واستخدامه وعلاقة الناس به، ومتى بدأت هذه العلاقة بالتفاعل والنمو؟
تؤكد المعلومات المتوفرة أن البشر بدأوا باستخدام الحليب كمادة غذائية أساسية قبل 10000 سنة، أي مع الثورة الزراعية، حيث تحولت المجتمعات من مجتمعات قبلية إلى مجتمعات مستقرة. وبكلام آخر، فإن التحول الديمغرافي أو السكّاني في العصر الحجري الحديث من نمط حياة الصيد والجمع إلى نمط الزراعة والاستيطان قد أسهم، كما تشير الموسوعة الحرة، بارتفاع عدد السكان، حيث سمحت هذه المجتمعات المستقرة للإنسان بتدجين مختلف أنواع الحيوانات واستصلاح وزراعة كثير من النباتات.
وقد حصل هذا التحول في كثير من مناطق العالم، خصوصاً منطقة الهلال الخصيب وبلاد ما بين النهرين، أي العراق، ولذا يقول كثير من المؤرخين إن السومريين كانوا أول الشعوب التي عملت على حلب الحيوانات الأليفة، واستخدام حليبها في عمليات تحضير الطعام، أو كمادة من المواد الغذائية الرئيسية.
وتوضح الحفريات والآثار الموجودة في تل العبيد بالعراق أن تربية الحيوان هناك بدأت 3000 سنة قبل الميلاد، وأن السومريين شربوا حليب البقر وصنعوا منه الجبنة والزبدة.
لكن بعض المؤرخين يقولون إن عملية تربية الماشية، خصوصاً الأبقار، انتشرت من منطقة الهلال الخصيب إلى أوراسيا، بينما يقول آخرون إن عملية الانتشار جاءت من الهند وباكستان. ومن عملية تحليل الدهون القديمة تبين أن مزارعي العصر الحجري الحديث، أي قبل 6000 سنة في بريطانيا وشمال أوروبا، كانوا أوائل مَن بدأوا في حلب الماشية للاستهلاك البشري.
وحسب العلماء، فإن القدرة على هضم الحليب تمت ببطء بين 4000 و5000 سنة قبل الميلاد، وعبر انتشار لطفرة وراثية «استمرار اللاكتوز»، التي سمحت للبشر بعد الفطام بمواصلة هضم الحليب.
كما تؤكد المعلومات المتوافرة أيضاً أن الفراعنة استخدموا الحليب ومشتقاته بكثرة، لكنه كان مادة مهمة حكراً على الطبقات العليا والملكية والأغنياء من الناس، وأن تربية الأبقار انتشرت في ذلك الوقت في شمال أفريقيا بشكل عام. وتشير الآثار الفرعونية إلى أن البقرة لعبت دوراً رئيسياً في عالمي الزراعة والروحانيات في مصر القديمة، ولعبت البقرة دوراً مركزياً أيضاً في الحياة المصرية.
في الأساطير اليونانية، أطلق على درب التبانة اسم مجرة «طريق اللبني»، لأن جزءاً من النجوم يمكن رؤيته في بعض الأحيان كطريق أبيض يشبه لون اللبن، ويقال أيضاً إن التسمية تعود إلى قصة «هرقل» ورضاعته، وتقول القصة التي لها عدة نسخ إن إله الاحتيال والتجارة «هرمس» وضع «هرقل» على صدر «هيرا» النائمة ليرضعه من ثديها، ولكن عندما استيقظت وأدركت هوية الطفل دفعته جانباً فانتشر اللبن أو الحليب في الفضاء الخارجي، مما أدى إلى تكوُّن هذه الطريق.
وبحسب ما يقوله البعض الآخر، فإن السبب الأكثر جدية أن الإغريق أطلقوا عليها هذه التسمية «ظناً منهم أن إحدى آلهتهم كانت ترضع وهي نائمة، فانساح اللبن من ثديها ليلاً على رقعة السماء».
ورغم أن اليونانيين القدامى تناولوا مشتقات الحليب، خصوصاً الجبنة بكثرة، فإنهم كانوا ضدّ شرب الحليب وحده، وأن ذلك من عادات البرابرة (كل ما هو غير يوناني أو لا يتكلم اليونانية). ففي «أوديسة» هوميروس يعيش الوحش العملاق «سايكلوبس» ذو العين الواحدة على الحليب عندما لا يأكل الرجال. «هذا الاستخدام للحليب يعزز فكرة أن العملاق همجي، وأن قُرّاء هوميروس يشعرون بأن شرب الحليب يتعارض مع العادات المتحضرة».
وبحلول القرن الخامس الميلادي، كانت الأبقار والأغنام في أوروبا تحظى بتقدير كبير لما توفره من حليب. وبحلول القرن الرابع عشر أصبح حليب البقر أكثر شعبية من حليب الغنم، ولا يزال الوضع على حاله حتى يومنا هذا. ومن بدائل الحليب الشائعة في القرنين الخامس والسادس حليب اللوز وجوز الهند والصويا والأرز والقنب، وقد جلب الأوروبيون معهم إلى أميركا الشمالية الأبقار التي تُربى لحليبها في القرن السادس عشر.
وأجرى عالم الأحياء الدقيقة الفرنسي لويس باستور أول اختبارات للتعقيم في عام 1862. ويعود الفضل إلى باستور في إحداث ثورة في سلامة الحليب، وبالتالي القدرة على تخزين الحليب وتوزيعه جيداً خارج المزرعة. وتم تقديم آلات بسترة أو تعقيم الحليب التجارية في عام 1895. وفي عام 1884، تم اختراع أول زجاجة حليب في ولاية نيويورك... وفي ثلاثينات القرن العشرين، تم استبدال علب الحليب بصهاريج تخزين كبيرة في المزرعة، وتم اختراع علب الحليب الورقية المطلية بالبلاستيك، مما أتاح توزيع الحليب الطازج على نطاق أوسع، أي بداية عالم التصنيع والإنتاج على نطاق استهلاكي واسع لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق