السبت، 7 سبتمبر 2019

المطبخ الصوفي- Sufi Cuisine

المطبخ الصوفي أساس الطعام التركي الحديث

الرومي استخدم رأيه في الطبخ تعبيراً عن أهم فلسفاته في الحياة
الأحد - 17 شهر رمضان 1438 هـ - 11 يونيو 2017 مـ
لندن: كمال قدورة
هناك الكثير من المطابخ العريقة والمهمة والتاريخية والتي تعيش في الظل ولا تسلط عليها الأضواء كما تسلط على بعض المطابخ المعروفة والحديثة هذه الأيام. والكثير من هذه المطابخ ترتبط بالمطابخ العالمية المهمة مثل المطابخ المغولية والعوضية والبنجابية وعلاقتها المتينة والطويلة بالمطبخ الهندي والمطابخ الماليزية والإندونيسية والتأثر بالمطابخ الهندية والصينية والمطبخ الحلبي وعلاقاته القوية بالمطبخين التركي والفارسي. ويعتبر المطبخ الصوفي الأكثر ارتباطا بالمطبخ التركي من المطابخ العربية واليونانية، من هذه المطابخ المهمة والفريدة إلى درجة أن بعض الخبراء يعتبرون أساس هذا المطبخ التركي الحديث، إذ كان أرقى بكثير من المطبخ الحالي.


ورغم قلة المعلومات المتوفرة عنه وقلة المطاعم التي تقدم أطباقه التراثية القديمة، لا يزال هذا المطبخ العريق والمهم حيا يرزق في مدينة قونية التركية المعروفة التي كانت عاصمة السلاجقة ومركز الصوفيين الرئيسي في منتصف القرن الثالث. ومن أكثر المعلومات القيمة والثمينة والموسوعية التي نشرت عن المطبخ في السنوات الماضية كتاب «المطبخ الصوفي» الذي نشرته دار الساقي في لندن للكاتبة والخبيرة المعروفة في المطبخ التركي نيفين خاليجي.


يفتح كتاب «المطبخ الصوفي» علي عالما جديدا لم أكن أعرف وجوده، عالم الإسلام الصوفي في القرن الثالث عشر وعالم الشاعر جلال الدين الرومي مؤسس الطريقة المولوية الصوفية للدراويش. ففي الكتاب نكتشف التفاصيل الدقيقة والحميمية للتعاليم الصوفية - رموزها - بداية طقوسها - حياتها اليومية - والتي تدور جميعها حول المطبخ وطاولة الطعام. أشعار رومي مشبعة بالاستعارات والصور المتصلة بالمطبخ. هكذا عبرت كلوديا رودن في مقدمة كتاب نيفين خاليجي عن إعجابها بعمل وكتاب خاليجي الرائع عن المطبخ الصوفي. وقد جمعت خاليجي أشعار رومي التي تتحدث عن الطعام وتذكره والتي تتعرض للطبخ والأكل بشكل عام ووصفات الطعام والأطباق التي وصفها.


وبالحديث عن كتاب الوصفات الصوفية التي وضعها الدرويش إسراف ديدي في القرن التاسع عشر «معظم هذه الوصفات تكشف الجودة الحسية، مذاقات وروائح ومشاعر القرن الثالث عشر، عندما كانت المدينة عاصمة سلطنة السلاجقة الذين كانوا يسطرون على معظم الأناضول» فقد كانت المدينة مركزا ثقافيا مهما وراقيا جذب العلماء والشعراء والفنانين والصوفيين من جميع مناطق العالم الإسلامي. ففن الطهو الراقي للغاية الذي تطور هناك كان متأثرا بالمطبخ الفارسي لأن السلاجقة كانوا يحكمون أصفهان أيضا. إذ تم امتصاص المطبخ العثماني للمطبخ الفارسي لاحقا لأن طباخي القصور في القسطنطينية وفيالق الانكشارية كانوا يتبعون الطريقة الصوفية. وتضيف رودن في تعليقها على أهميتها الكتاب، أن بعض مناحي المطبخ التركي التي نعرفها هذه الأيام هي ميراث من الفترة السلجوقية... المطبخ الصوفي يسلط الضوء على تطور المطابخ التركية ومطابخ الشرق الأوسط.


وتقول خاليجي، إن الرومي استخدم الكثير من الرموز في كتاباته ومنها الطعام وعندما يقول إن «حياتي يمكن أن تختصر بهذه الكلمات: (كنت فجا... فنضجت فاحترقت)»، فإنه يستخدم تعابير الطعام والطبخ للتعبير عن أهم فلسفاته في الحياة وتفسير أو بكلام آخر استخدم الطعام لشرح بعض أفكاره المعقدة. فقد كان مصدرا لا نهائيا من المعلومات عن الخاصة بكل نواحي الطعام، مثل الزراعة والطب والجماليات والمذاق وسبل تحضير الطاولة والترفيه والعمل الجماعي وعمليات الطبخ ذاتها. وبالإضافة إلى ذلك ترك جلال الدين الرومي وراءه كثيرا من وصفات الطعام وسبل تحضير بعض الأطباق وكشف عن كثير من أسرار تلك المرحلة التاريخية في العصر السلجوقي. ومن هذه الأسرار في الدرجة الأولى القواعد المدونة أو المكتوبة لترتيب عمل المطبخ في تلك الحقبة، وفي الدرجة الثانية ضريح خاص لطباخ الرومي اتيش - بازي وفي الدرجة الثالثة في كون تدريب الدراوشة كان يبدأ فعليا في المطبخ. وتضيف خاليجي أن ما دفعها لكتابة كتابها الرائع والشامل هو بقاء بعض الأطباق التي كانت تنتشر أيام جلال الدين الرومي في مدينة قونية التركية حتى يومنا هذا. وتذكر خاليجي بعض الأطباق التي ذكرها الرومي ولا تزال موجودة حتى الآن، مثل طبق توتماج الذي يتألف من رقائق العجين المربعة والمطبوخة مع اللحم واللبن وطبق بولاماج الذي هو عبارة عن حساء حلو المذاق وطبق سيركينكوبين الذي يتألف من العسل وطبق مصنوع من السفرجل والدبس العنب.


وفي مجال الحديث عن المعلومات المتوفرة عن المطبخ الصوفي في اللغة التركية حديثا، تؤكد خاليجي أن الكتاب الوحيد الذي يتناول المطبخ الصوفي في تركيا هو كتاب علي إسراف ديدي الذي صدر عام 1992. وفي هذا الكتاب فصول خاصة بأنواع الحساء الغنية والسلطات وأنواع المخللات وأنواع الكباب وأنواع المحاشي والحلويات والعوامة المقلية وشرائح اللانغا المقلية والفطائر وخصوصا فطائر البوريك باليقطين أو القرع و«الكراعين» والكفتة وأطباق الباذنجان مع الحم والبصل ويخنات الخضراوات وسبل تحضير يخنات لحم الغنم المطبوخة برب البندورة والبصل وأطباق أرز البيلاف ونخاع العظم بالإضافة إلى كيفية تحضير الثلج من الماء.


وتؤكد خاليجي أن للطريقة الصوفية الكثير من القواعد والقوانين الصارمة التي لا بد من اتباعها وتطبيقها حرفيا، وأن المطبخ هو المكان المقدس الأول الذي يفترض أن تطبق فيه هذه القوانين والقواعد. كما يبدأ تدريب الدراويش على الطريقة الصوفية في المطبخ عادة أو بكلام آخر من خلال العمل في المطبخ لمدة مائة يوم كفترة تجريبية.


وكما هو معروف تاريخيا في عالم الصوفيين، لا يدخل المطبخ أي من الناس إلا في حالات الضرورة القصوى، وعندما يحصل ذلك لا بد للفرد من أن يدخل الباب صامتا وتحريك رأسه برقة لإلقاء التحية. ولا يدخل الفرد عادة إلى المطبخ إلا عندما يكون مدعوا أو بإذن عادة على الدرويش المسؤول السماح للأشخاص. وعندما ينتهي الداخل إلى المطبخ من إنهاء مهمته يمشي إلى الوراء أو يتراجع للخروج من الباب رافعا التحية بتحريك رأسه من جديد.


وحسب الوظائف المطبخية الصوفية الثماني عشرة التي تذكرها خاليجي فإن في المطبخ غسالا مسؤولا عن ملاحقة أمور غسيل أقمشة المطبخ، كما هناك شخص مسؤول عن أمور نظافة المراحيض والمغاسل. وهناك شخص مسؤول عن تحضير العصير والمثلجات وتقديم للزوار. كما هناك شخص مسؤول عن تنظيم عمليات غسل الصحون والقدور وهناك من هو مسؤول عن تنظيف الخزائن والسمكرة والأواني. أضف إلى ذلك وجود شخص مسؤول عن شراء الخضراوات واللحوم والمواد من السوق صباحا وشخص آخر مسؤول عن تحضير طاولة الطعام وترتيبها وتنظيفها ومسؤول عن متابعة الفوانيس والشمعدانات ومسؤول آخر عن تحضير القهوة وطحنها وآخر يتابع أمور الحديقة والمزروعات والمحاصيل وقطافها وجلبها إلى الطباخ إلخ.


* من أقوال جلال الدين الرومي التي يستخدم فيها تعابير الطعام والمطبخ:


- الحب يحلي المرارة، لأن مبدأ الحب هو وضعنا على الطريق الصحيحة.


- من هذا النبع شربت الحلوى، الماء الكريستال، الماء أنعشت رؤيتي، أنعشت روحي.


- اعتبرنا البدر رغيفا من الخبز فرفعنا أيدينا إلى السماء.


- «إذا كان فرع الشجرة محملا بالثمار، فإن تلك الثمار ستحنيه. أما الفرع الذي لا ثمر عليه، فيظل رأسه مرفوعا. كان الرسول عظيم التواضع، لأن ثمار الدنيا والآخرة وفواكههما كانت متجمعة عليه».


- الحقيقة أن الجاذب واحدٌ، لكنه يتراءى متعدداً. ألا ترى أن الإنسان تستبد به مائة من الرغائب المختلفة؟ - يقول: «أريد تتماج، أريد بورك، أريد حلوى، أريد فطائر مقلية، أريد فاكهة، أريد رطباً». يعدّد هذه الأشياء ويسمّيها واحداً واحداً، لكن أصلها جميعاً شيء واحد، أصلها الجوعُ؛ وذلك شيء واحد. ألا ترى كيف أنه عندما يشبع من واحد منها، يقول: «لا ضرورة لشيء من هذه الأشياء؟».


- إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح، وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز وإن كنت قادرا على إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم أن كل ما تبحث عنه هو أنت».


- «دليلك الحقيقي يشرب من جدول غير مسدود».


- «غذاء الروح يبقى سريا. غذاء الجسد يقدم في العراء».


- «كمثلنا. أولئك الذين يعملون في المخبز لا يعرفون طعم الخبز مثل المتسولين الجياع».


- «تركض الغزالة في كل ناحية وترفض أن تتغذى على القش الذي يفرغه الصياد كل ليلة، في حين أن الأبقار والحمير تحبانه كأنه السكر».


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق