المطبخ المغولي وارتباطه بالفخامة والثراء
غيّر مفهوم الطعام في الهند وحوّل الطبخ إلى فن راقٍ
لندن: كمال قدورة
عندما يتم الحديث عن المطبخ المغولي الذي غيّر طبيعة المطبخ الهندي إلى الأبد، عادة ما تُستخدم كلمات وأوصاف كثيرة مثل فخم وباهظ وجميل وسخي وثري، إذ إن الإمبراطورية المغولية التي تواصلت لثلاثة قرون (1526 - 1858) كانت توصف بكلمات مشابهة مثل فاخرة، وغنية ومعقدة.
فوصفات أطباق الكاري والمرق أضحت مع المطبخ المغولي أكثر كثافة وثراء، مع إضافة الزبدة والقشدة واللبن، وأصبحت أكثر فتحا للشهية مع بتلات الزهور الطازجة التي تزينها إلى جانب رقائق الذهب والفضة. ويقول البعض في مجال التوصيف إن المطبخ المغولي تحول مع الزمن إلى فن بحد ذاته. وحتى إن بعض الناس يتغنون ويتغزلون بأسماء الأطباق نفسها لروعتها وغرابتها ومعظمها فارسي الأصل، إذ إن الفارسية كانت لغة المغول الرسمية: «كورمة - الو غوبي كا بولاو - بنير - الو حاس - الو لجواب - حلوى عنجير - بداني كيورا سيفايان - بينغان موساسلام - بيرياني - دال كابيلا - دارباري دال - مين كولفي - غاجار - غولاب جمون - قبلاي كانا - سوبزي - كداي بنير - بسانداز – نيهاري».
لا عجب في ذلك، إذ إن أطباق المطبخ المغولي الكلاسيكية والكثيرة التنوع وعلى رأسها طبق البرياني، هي في الأصل أطباق تم إعدادها في المطابخ الملكية للأباطرة، التي كان يتم إعدادها بأساليب ومواصفات خاصة وجديدة في عالم الطبخ. ومن أهم هذه المواصفات الحرارة والرائحة العبقة أو العطرة للصلصات الرخيمة والكثيفة. وتنطبق هذه المواصفات أيضا مع المطبخ الأندلسي والمغربي بشكل عام وتتقاطع معه، إذ كانت معظم أطباقه أيضا أطباقا ملكية كانت تحضر في قصور الأمراء في إسبانيا. وكانت هذه الأطباق أيضا غنية في شكلها وفاخرة في سبل تحضيرها وغنية بالزينة والمواد المختلفة والخلط فيما بينها مثل الفاكهة واللحوم والزبيب والعسل والمكسرات (مثل الكاجو واللوز والجوز والفستق)، وشتى أنواع البهارات (خصوصا الهال والقرفة والقرنفل) والأعشاب على أنواعها.
عندما دخل المغول الهند في القرن السادس عشر، أدخلوا معهم التوابل الغريبة والمكسرات والفواكه، إضافة إلى تقنيات وأساليب جديدة في عالم الطبخ، مثل استخدام القشدة واللبن والسمنة كما سبق وذكرنا. وفضلا عن الكمية الهائلة من أطباق اللحوم المعروفة، فإن المطبخ المغولي من أغنى الأطباق النباتية اللذيذة والطيبة التي يكثر فيها استخدام النعناع والكزبرة والزعفران، وهي أنواع معروفة برائحتها وشذاها العبق. ولم تكن هذه الأعشاب تستخدم في أطباق اللحم والأطباق النباتية فحسب، بل في الحلويات الكثيرة والمعروفة حتى الآن.
هناك عدة عوامل أو أحداث تاريخية تساعد على فهم تطور المطبخ المغولي: في المقام الأول، دخول المطبخ الفارسي إلى الهند في القرن الثالث عشر، وفي المقام الثاني، إدخال فرن التندور لصناعة خبز التنور وخبز النان من قبل الأتراك والأفغان أيام سلطنة دلهي، وما تبعه ذلك من إضافات كالكيما (لحم مفروم مع البصل والثوم والزنجبيل والفلفل الحار والسمن والبهارات الأخرى)، والكباب واللبن الذي يطلق عليه اسم الداهي في الهند وجبنة البانير. ويقال إن سلطنة دلهي بقيادة الجنرال الأفغاني قطب الدين التي تشمل كثيرا من العائلات البشتونية والتركية الحاكمة كانت جذور المطبخ المغولي بلا منازع.
وفي المقام الثالث، فترة السلطان جلال الدين محمد أكبر (شمال الهند - باكستان - البنغال) التي عرفت انتشار أطباق الأرز والحبوب واللحوم المعروفة مثل طبق الكشدي Khichdi (يطلق عليه اسم الكشري أحيانا) للأرز والعدس الذي حوله المصريون إلى الكشري وطبق حليم Haleem الذي يشمل العدس واللحم والقمح وطبق مورغ موسالام Murgh Musallam للدجاج. أضف إلى كل ذلك، وصول كثير من الخيرات الجديدة من العالم الجديد عبر كريستوفر كولومبس مثل البطاطا والبندورة والذرة والأناناس والبابايا والفلفل الحار والكاجو وغيره، مما منح المطبخ العظيم هذا أبعادا أخرى وزاد من غناه.
يقال إن السلطان ظهير الدين بابر (1526 - 1530) الذي كان يعتبر واحدا من أهم الفاتحين في التاريخ، كان مغرما بالطعام وقد أفرد له قسما مطولا في سيرته وتحفته «بابر نامة»، وكان مغرما بأطباق اللحم التي تحضر على الطريقة البدو الرحل، وكان يحبها مخلوطة بالخضار وأحيانا بالفاكهة الطازجة.
وحسب «بابر نامة» أن استخدام البهارات كان قليلا في إيران، وكان الزنجبيل إحدى أهم المواد التي تستخدم للتطييب الطعام. وجاء في كتاب بابر وصف للفاكهة والمكسرات التي تزرع في وادي فرغانة، مثل الرمان والدراقن والتوت والبطيخ والعنب والمشمش والجوز والفسدق الحلبي. وهذا يفسر على الأرجح غرام بابر بشتى أنواع الشراب، خصوصا شراب الورد المعروف باسم «جلابموست».
وجاء بابر في كتابه على ذكر كباب الغنم وطبق الكاري الشاكي سبزي، وقد أحب بابر الفاكهة الهندية مثل المانجو والكاكيا المعروفة بجاكفروت والبوملي والبرتقال واللايم وجوز الهند والأناناس وقصب السكر وقلنباق أو الرشدية (كرمبولا التي تسمى مصر برتقال بامية)، وموز الجنة الأخضر الكبير. ورغم أن بابر لم يمكث في الحكم سوى أربع سنوات فقد ساهم مساهمة كبيرة في تقديم زراعة الفاكهة والمكسرات، كما وظف الطباخين الهنود لتحضير الأطباق الفارسية بمواصفات صينية وفارسية مختلطة.
وقد ذكر الكاتب البرتغالي سبفستيان مانريك، الراهب في نظام القديس أوغسطين، في مذكراته حول الهند في ذلك العصر ثلاثة أنواع من الخبز: خبز رقيق يتناوله الفقراء، والخاجور، وخبز بسمك الإصبع تتناوله الطبقة الراقية ويصنع من السكر والزبد المصفى والخجورو، وخبز محلى يصنع من الدقيق والسكر والزبد. والشكل الحديث لتلك الأنواع من الخبز هو خبز الشباتي الرقيق، وخبز النان السميك الذي جاء ذكره في مذكرات الشاعر الفارسي أمير خسرو، وخبز الشيرمال المحلى.
أما خليفة بابر السلطان همايون (1530 - 1556)، فقد لعب دورا كبيرا في تطور المطبخ المغولي، إذ كان مغرما بالتراث الفارسي، وكان مسؤولا عن التبادل الكبير بين المطابخ الهندية المختلفة والمطبخ الفارسي العريق بشكل عام. فقد طلب همايون المساعدة من شاه إيران عند ضم شير شاه سوري الأفغاني سلطنته في دلهي في منتصف القرن السادس عشر. وبعد أن أمضى 12 سنة في إيران، أغرم بالمطبخ الفارسي وتزوج بأميرة إيرانية هناك. وفيما أغرم شاه إيران بطبق الكشري، جلب همايون أثناء عودته إلى الهند بعد موت شاه سوري، ما استطاع من الفنانين والطباخين الإيرانيين، ومنذ ذلك الوقت ارتبط المطبخان بعضهما ببعض، وتزاوجا حتى وقتنا الحالي، خصوصا طبق كشري البرياني مع طبق البيلاو الإيراني. ويقال إن همايون الذي لم يعش أكثر من ستة أشهر بعد عودته من إيران، رفض أكل لحم البقر احتراما للهنود، وكان نباتيا لفترة معينة. وأهم ما يمكن القول إن أيام همايون الذي مات وهو في السادسة والعشرين من العمر، تم استخدام المكسرات مثل الفسدق الحلبي واللوز والكاجو في صناعة الصلصات وأطباق الأرز والحلوى مع الفاكهة. وكبابر أحب همايون شراب الليمونادة وشراب الورد المخلوط بالثلج، كما يذكر موقع «أنديا كاري» على شبكة الإنترنت.
بعد همايون جاء السلطان جلال الدين أكبر (1556 - 1605) بين منتصف القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، وقد حافظ أكبر على اهتمامات همايون المطبخية، إذ كان صاحب شهية كبيرة ومن المغرمين بالحلاوة والبرياني وخبز الشاباتي، وقد انتشرت أيامه أطباق الأرز والكشري كما سبق وذكرنا. وكان أكبر من المغرمين بطبق الكشري أو بكلام آخر طبق الرز باللبن، وكان هناك نحو 100 نوع من أنواع الكشري التي تطبخ يوميا في عهده، كما كان يأتي بالثلج من الجبال القريبة لقصره لتحضير الشراب الطازج. ولأنه كان من المغرمين بمنطقة راجبوتانا التي تضم باكستان وراجستان وغوجارات وماديا براديش وسط الهند، ولهذا تزوج بأميرة هندوسية معروفة جدا باسم جودا باي أو مريم الزمان، وبدأ باستخدام المقلي في الطبخ كما يفعل الهنود دائما. ويقال إن أكبر وظف أكثر من 400 طباخ معظمهم من الراجبوت، تلك المناطق وسط الهند، ليطبخوا لمريم الزمان. ومن الأطباق المشهورة أيام أكبر كان طبق الدجاج مورغ موسالام Murgh Musallam الذي يعتبر من أهم أطباق المطبخ العواضي في أوتار براديش. والطبق عبارة عن دجاج بالفرن محشي بالبيض المسلوق أو اللحم المفروم والزعفران والقرفة والقرنل والهال وبذور الخشخاش. وعادة ما يطبخ الطبق على نار هادئة.
وقد جاء على ذكر وصفات الأكل أيام أكبر في كتاب أبو الفضل الأول «أكبر نامة» الموجودة باللغات الأردية والهندية والإنجليزية. ومن كتاب أبو الفضل يبدو تأثر المطبخ المغولي آنذاك بالمطبخ الراجستاني والفارسي والأفغاني.
وقد حاول المتصوف والمتفلسف جلال الدين وضع دين جديد يمزج بين ديانات الهند المختلفة خصوصا الإسلام والهندوس، ودعا من خلال هذا الدين إلى الامتناع عن تناول اللحوم والثوم والبصل، وقتل الحيوانات لغاية أكلها. ولارتباط الطعام بفلسفاته في الحياة، كان أكبر حسب ما جاء في كاتب «أكبر نامة» لأبو الفضل يقوم عن الطعام وهو يشتهيه، وكان يتناول القليل منه في سنواته الأخيرة (وجبة واحدة)، وكان يتناول الطعام وحيدا في كثير من الأحيان.
وحسب أبو الفضل كان لأكبر، الذي كان يشرب ماء نهر الغانج، مئات الطباخين المحترفين القادرين على تحضير مئات الأطباق وتجهيزها خلال ساعة واحدة.
ومع السلطان الأعظم نور الدين جيهانكير (1605 - 1627) ابن مريم الزمان التي تزوجت أكبر وغياث الدين شاه جيهان بعد ذلك، وصل المطبخ المغولي إلى عصره الذهبي، حيث استحدث فرن التندوري المتنقل، ووصلت خيرات العالم الجديد من أميركا نهاية القرن الخامس عشر، كما سبق وذكرنا. وكان جيهانكير، كما يقول موقع «أنديا كاري» مغرما بالتراث الكشميري، وكان مدمنا على الأفيون والكحول والصيد وبالتالي اللحوم الطازجة. ورغم أنه لم يحب السمك فقد كان مغرما بطبق «اللذيذة» Lazizah، وهو طبق كشري على الطريقة الغوجوراتية من العدس والأرز والسمنة والمكسرات والبهارات ومشروب الـ«فالودة» Falooda المعروف.
وتواصل التطور في المطبخ المغولي بعد ذلك مع شاه جهان (1627 - 1658) الذي عرف بولائمه الضخمة والأكثر من ذلك ببناء تاج محل. ومع جهان وصل طبق البرياني إلى حيدر آباد في جنوب الهند في منتصف القرن السابع عشر. وكان البرياني هذا يطبخ من عدة طبقات بين الأرز ولحم الدجاج ولحم الغنم والخضار. ويقول السير توماس روز الذي زار جهانكير في إطار التنوع وكثرة الأطباق، أن خمسين طبقا كانت توضع أمام أقل الضيوف أهمية، وكانت أطباق الأرز تأتي بشتى الألوان والأطياف من الأخضر إلى الليلكي وغيره. كما كان يتم تقديم اللحوم على شكل قطع صغيرة بدلا من القطع الكبيرة ومطبوخة بالبصل والبهارات والزبدة والزنجبيل. وأهم ما يمكن أن يقال في جهانكير إنه دمج المطبخ الكشميري بالمطابخ المغولية المتنوعة.
ويقال إن الطبخ أيام جيهان وصل إلى ذروته، وأصبح إقليم البنجاب موطنا لأفران التندوري والطبخ البطيء المعروف بـ«الدم» Dum. ومع مجيء السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب المعروف باورنجزيب (1658 - 1707)، الذي كان مسلما محافظا ونباتيا، انتهى التحالف الإسلامي الهندوسي الطويل، وبدأت الإمبراطورية المغولية بالتلاشي. ومع هذا وصل المطبخ المغولي معه إلى أرقى مراحله وتطوراته بسبب وجود مراكز قوى جديدة في الإمبراطورية مثل حيدر آباد، وليكناو، ولاهور، وكشمير، وراجستان. وقد أصبحت هذه المناطق لاحقا ذات مطابخ فاخرة وممتازة خاصة بها متفرعة عن المطبخ المغولي الأصل.
التعليقات