قصة الشعرية وتاريخها المثير للجدل
الجدل حول مصدرها ومقارنتها بالباستا
لندن: كمال قدورة
يصعب الحديث عن النودل أو الشعرية والمعكرونة الباستا دون العودة إلى الجدل حول أصلها وفصلها ومن جاء بها أولا ومن بدأ باستخدامها. ورغم استخداماتها التي تعود إلى آلاف السنين، لا يزال الكثير من الناس يعتقدون أن ماركو بولو هو الذي جلب النودل من الصين خلال رحلته الشهيرة على طول طريق الحرير نهاية القرن الثالث عشر وسماها باستا - pasta. ويجادل البعض على أن المعكرونة - macaroni كانت موجودة في إيطاليا مائتي سنة قبل عودة ماركو بولو من رحلته للصين وربما أكثر. وتشير دراسات إيطالية حديثة إلى أن قصة ماركو بولو غير صحيحة إذ أن الإيطاليين دأبوا على استهلاك أنواع كثيرة منها منذ القرن التاسع وبالتحديد المعكرونة الجافة المصنوعة من القمح القاسي. لكن انتشار المعكرونة في إيطاليا والعالم لم يتم إلا على يد العرب بحلول القرن الثالث عشر. وفي هذا القرن، كما تشير المعلومات المتوفرة، كان الكثير من مدن إيطاليا الشمالية المعروفة تبيع المعكرونة المجففة.
كما يعود البعض في أصول المعكرونة إلى أيام الحضارة الأتروسكانية القديمة والتروسكانيين في توسكانا التي كانت تسمى بـ«أتروريا» آنذاك. فقد كان سكان الإقليم الإيطالي المعروف والمطعم بالحضارة الإغريقية يحضرون نوعا من أنواع شعرية اللزانيا - lasagna المصنوعة من الحنطة القديمة (قمح مفلوق) 400 سنة قبل الميلاد. وبعد ذلك بدأ الرومان بتحضير ما يعرف بـ«لاجين» lagane وهو نوع آخر من أنواع عجينة اللزانيا المحضرة من الطحين والماء. مهما يكن فقد كانت شعرية اللزانيا تطبخ قبل أو بعد الرومان في الفرن ولم تبدأ عملية السلق التي نعرفها بعد. وقد جاء ذكر اللاجينا في أوراق الشاعر الروماني الشهير هوراس في القرن الأول قبل الميلاد، إذ تحدث عن قلي الناس لطبقات من العجين تسمى اللاجينا - lagana.
وفي القرن الثاني للميلاد، استخدم الطبيب اليوناني المعروف جالينوس كلمة إتريون - itrion للدلالة على أي نوع من أنواع الخلط بين الحنطة والماء. وكانت كلمة إتريوم - itrium اللاتينية آنذاك تعني العجين المغلي.
وكانت الإتريون التي يعتبرها بعض البحاثة أول كلمة أوروبية للنودل أو الشعرية، أيام اليونان نوعا من أنواع التورتيللا - tortilla المقلية بزيت السمسم والعسل، ولم تبدأ عملية غليها بالماء إلا لاحقا نهاية القرن الرابع قبل الميلاد لتوفير الزيت الغالي الثمن.
وكان الناس في تلك الأزمان الساحقة يستخدمون كلمة الإتريون - itrion بصيغة الجمع أي «إتريا - itria، وهذا هو الحال مع النودل الكلمة التي تأتي دائما بصيغة الجمع.
وحسب التلمود، فإن الإتريا كان موجودا وشائعا في فلسطين بين القرنين الثالث والخامس للميلاد، وانتشر الاسم في اللغات العبرية والآرامية وبعدها العربية. وكانت تدلل الكلمة في اللغة الآرامية على نوع من أنواع شوربة النودل، حيث كان يتم تصميم العجينة بأشكال صغيرة مختلفة.
وقد وصف عالم اللغويات السرياني عيسى بن علي أو أشو بار علي في القرن العاشر للميلاد، ايتيرا - itriyya اليونانية الأصل، على أنها خيوط أو سلاسل من السميد المجفف قبل الطبخ. أما مؤسس علم الجغرافيا محمد الإدريسي، فقد ذكرها قائلا: إنها تصنع وتصدر من جزيرة صقلية الإيطالية أيام حكم النورمان في القرن الحادي عشر.
وعن العرب ودوهم تشير بعض المعلومات المتوفرة أن العرب أخذوا النودل إلى كل مكان حتى البرتغال، إذ كان البرتغاليون يطلقون على النودل اسم التريا - aletria المأخوذ من الاترية العربية - al - itriya على ما تؤكده الموسوعة الحرة.
ويؤكد الكثير من الخبراء، أن الفضل في اختراع الباستا المغلية بالماء يعود إلى العرب. فقد لجأ التجار العرب خلال رحلاتهم على طريق الحرير إلى أخذ الباستا الجافة كإحدى المواد الغذائية الأساسية معهم لسهولة حملها وغليها لاحقا بالماء. كما أدخلوها إلى صقلية بعد الغزو الإسلامي في القرن الثامن.
وكانت هذه الباستا التي يستخدمها العرب خلال أسفارهم، هي نفس الباستا التي كان يستخدمها الناس في مدينة باليرمو، عاصمة صقلية بكميات كبيرة. وكان أصل كلمة معكرونة - macarone التي يستخدمها أهل باليرمو، يشتق من التعبير الصقلي عن العجين المصنوع بقوة أي خلال وقت طويل. ويقول كومر بأن أول وصفات المعكرونة وأقدمها جاء من صقلية ومن الوصفات أو الأطباق العربية وخصوصا المعكرونة بالباذنجان النوع الذي أدخله العرب بدورهم إلى صقلية، والمعكرونة بالسردين التي تعتبر الأطيب والأهم والتي لا تزال تحضر حتى يومنا هذا.
لا بد من الذكر هناك أن النودل/ الشعرية والباستا هما ذات الشيء، وكل شيء سواء أكان باستا أم نودل أم سباغيتي أم معكرونة، جميعها الشيء ذاته، أي خليط بين الحنطة والماء وأحيانا خليط من الحنطة والماء والبيض وأحيانا يضاف إليه الأرز في الحالة الصينية أو الآسيوية. ويمكن القول في هذا المضمار بأن جميعها تأتي تحت عنوان الباستا التي تعني العجينة ككلمة. وفيما يستخدم ويسلق بعضها طازجا يحفف بعضها الآخر للحفظ والتخزين للاستخدامات المستقبلية.
وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار، بأن النودل - Noodle وهي الشعرية في اللغة العربية مشتقة من كلمة نودل - Nudel الألمانية التي تعني المعكرونة. وكلمة نودل – Nudel تعود في الأصل إلى اللاتينية نودوس – Nodus التي تعني العقدة.
في مقدمة مدونات ليوناردو ديفينشي المطبخية الشهيرة التي جمعها تلميذه فرانسيسكو ميلزي، وترجمها كل من جوناثان روث وشيليه إلى الإنجليزية لا يوجد اختلاف في الجوهر بين هذه التسميات كما ذكرنا، وتأتي جميعها في مئات الأشكال بعضها رفيع كخيوط وسلاسل طويلة وأحيانا أشكال صغيرة رقيقة على شكل أصداف أو أسطوانات صغيرة، وأحيانا كتل عجينية صغيرة أشبه بالزلابية - dumpling المحشية باللحم أو الخضار أو الجبن.
ولكن الفصل بين هذه التسميات والأنواع، بات أكثر وضوحا ودقة هذه الأيام، إذ أن الحديث عن النودل، يعني الحديث عن الشعرية الصينية البيضاء التي تصنع أحيانا من الحنطة والماء وأحيانا من الحنطة والماء والأرز، ويتم استهلاكها في المطاعم الآسيوية وخصوصا الطويل منها، أما الحديث عن الباستا فهو الحديث عن الباستا الإيطالية (التي تعني العجينة) الشقراء والسمراء اللون والتي تضم مئات الأنواع وعلى رأسها الباستا الطويلة، أي السباغيتي - Spaghetti الطويلة والرفيعة والمعكرونة التي تأتي على شكل أسطوانات ضيقة وتصنع من الحنطة الصلبة.
مهما يكن، وبعيدا عن الجدل البيزنطي حول ماركو بولو وإيطالية النودل والباستا، فإن النودل والباستا من أقدم الأطعمة في التاريخ على ما يبدو، ويوجد الكثير من الشواهد في الكثير من مناطق العالم، إذ أن الخلط بين الماء والحنطة وتجفيف الخليط من أبسط الوسائل في تخضير الطعام وأكثرها فعالية وأقلها كلفة.
لكن الحفريات والآثار في معظمها تعود إلى اليابان (3000 سنة قبل الميلاد من دقيق الأرز) والصين التي تعتبر الأم الأصل لمعظم أنواع المعجنات، إذ تشير المعلومات الأثرية أن الصين بدأت باستغلال القمح وتحصيله 7000 سنة قبل الميلاد. كما تم العثور على طاسات النودل والنودل الطويل والرفيع المصنوع من الدخن في موقع لاجيا الأثري على طول النهر الأصفر قبل 4000 سنة. وتشير القطع التي تم العثور عليها على وجود تقنيات عالية لإنتاجها. أما قطع النودل الطويلة التي تشبه السباغيتي والتي تعود إلى أيام مملكة هان 202 سنة قبل الميلاد، فقد كانت أول النودل المصنوعة من الحنطة العادية التي يعثر عليها.
ويعتبر النودل في الكثير من الدول الآسيوية وخصوصا الصين واليابان، رمزا للعافية والحياة الطويلة، ولذا يستخدم كثيرا في كعك أعياد الميلاد ورأس السنة.
وبالطبع يعتقد العلماء أن النودل انتشر من الصين إلى جميع أنحاء آسيا وبعدها جميع أنحاء العالم. ولا عجب أن نرى في جنوب آسيا والهند بشكل خاص استعمالات قديمة لما يعرف بالسيفيان – Seviyan باللغة الهندية والأوردية، وهي نوع من أنواع شعرية «فيرميشيلي»- vermicelli الإيطالية الصغيرة، وتستخدم في بعض البلدان الآسيوية مثل الهند وسريلانكا كبديل عن الأرز في أطباق الحلوى، أشبه بـ«الأرز بالحليب».
وما هو معروف أن التبادل الحضاري والثقافي بين الصين وجنوب شرقي آسيا يعود إلى آلاف السنين، وينطبق الأمر ذاته على المطبخ الهندي الذي تطعم وتأثر منذ قديم الزمان بالمطبخين الفارسي والأفغاني، وهلم جرى. ويعتقد البعض في هذا الإطار أن البدو الرحل في وسط آسيا هم الذين ساهموا بانتشار اللبن والجبن حول العالم وبالتالي كانوا أيضا وراء انتشار النودل. ويقول بعض المؤرخين بأنه كما هو الحال مع المغول الذين نشروا الزلابية من الصين إلى صربيا، إذ يصعب التمييز بين الزلابية الصربية البلميني – pelmini والزلابية الصينية الشهيرة الجياوزي - Jiaozou. وينطبق الأمر ذاته على الزلابية التركية المعروفة بالمانتي – Manti.
وفي الشرق الأوسط الذي لا تعرف شعوبه ودوله عادة أطباق الباستا، كثيرا ما يستخدم الناس أطباق الزلابية - dumpling المحشوة باللحم والمطبوخة باللبن، كما درج العرب منذ قديم الزمان كما ذكرنا سابقا عن استخدام الشعرية في أطباق الشوربة، ولا يزال المصريون يضيفون الباستا إلى العدس والأرز لتحضير طبق الكشري الشهير.
أما في أوروبا، فلا يمكن تجاهل إيطاليا التي تتكل على الباستا وعوالمها ويعتبر طبق زلابية الفارنيكي - Varenyky من أشهر الأطباق البولندية والأوكرانية والروسية. وعلى سبيل ذكر الروس هنا لا بد من الذكر هنا أن طبق الستروجانوف - Beef Stroganoff كان يقدم مع الشعرية قبل أن يستبدل الأرز بالشعرية حديثا.
* ليوناردو ديفينشي مخترع السباغيتي
* في مقدمة مدونات ليوناردو ديفينشي المطبخية الشهيرة التي جمعها تلميذه فرانسيسكو ميلزي، وترجمها كل من جوناثان روث وشيليه إلى الإنجليزية، يقول المحرران بأن ديفينشي هو من اخترع السباغيتي - Spaghetti وهي من بنات أفكار الشهير ديفينشي، وقد تمكن من ذلك خلال محاولاته ترفيع وترقيق شرائح اللازانيا السميكة وتحسين شكلها، وهناك الكثير من الرسوم الرائعة التي تركها ديفينشي وراءه في وصف تصنيع السباغيتي. وتقول القصة بأنه تمكن من إنتاجها وتصنيعها كخيوط رفيعة كما نعرفها الآن، لكن الناس لم يرغبوا فيها كثيرا ووجدوها صعبة التناول بالسكين ولذا اضطر ولأول مرة إلى اختراع الشوكة برؤوسها الثلاثة حلا للمشكلة. وبكلام آخر فإن اختراع الشوكة في البدايات جاء حلا ديفينشيا لمشكلة تناول السباغيتي. ولهذا السبب يقول بعض البحاثة بأن السباغيتي كما نعرفها الآن، لم تنتشر فعلا في إيطاليا وحول العالم إلا بعد الحرب العالمية الثانية وتعليب الأميركيين لها مع صلصة الطماطم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق